[color=#000000]دلفت إلى المكتب الذي تعمل فيه بخطوات متثاقلة ؛ بعد أن طرقت الباب المفتوح طرقتين خفيفتين كما تقتضي أساليب اللياقة . أين كل تلك الشجاعة التي كنت أشعر بها منذ قليل ؟؟!! أيقنت الآن أنها لم تكن إلا صحوةً كتلك الصحوة التي يشعر بها كل من يقبل على الوفاة أو كما نسميها نحن المصريين مجازاً ( صحوة الموت ) .حاولت تهدئة نفسي و التقاط أنفاسي بينما كانت مدام ( ..... ) تستحثها لتوقع على بعض الأوراق . أنهتا ما كانتا تفعلانه عندها التفتت لي الدكتورة ( ...... ) و قالت بنفاد صبر :- خيييييييير ؟؟؟أجبتها بكل ما أعرف من أدب :- السلام عليكم و رحمة الله و بركاته يا دكتورةلكنكم لن تصدقوا ما أقدمت على فعله بعد ذلك .. لطالما كنت أنقلب على ظهري ضاحكاً من أولئك الذين يمثلون في أفلام الرعب و مسلسلاته عندما يُقدِم الواحد منهم على خطوة حمقاء يعلم الجميع أنها حمقاء . تلك التصرفات التي أسهب الكاتب أحمد خالد توفيق في الحديث عنها . كالمرور من فوق جثث المسوخ ، أو كالانفصال عن المجموعة أو كالبقاء و حيداً في منزل مهجور ليلاً . أنا أعلم أن الحياة لا بد أن تدب في المسخ ؛ و أن الموت مصير كل وحيد . أنت تعلم ذلك أيضا ، كل طفل يعلم ذلك و يحفظه عن ظهر قلب لكن الأبطال - بكل بساطة - لا يعلمون ، فيقعون ضحية إهمالهم .
الفكرة التي أريد إثباتها هنا .. هي أنك حينما تشعر بالرعب لا يعود تفكيرك منطقيا . كل الثوابت التي تعرفها تختفي من ذاكرتك تماماً فلا يغدو أي تصرف تقوم به وقتها معقولاً .
هذا يعود بنا إلى ما فعلتُه ...
لقد مددت يدي إليها بالسلام ....
لا لم تخطئوا في قراءة الكلمة . أعرف أنني ألقيت عليكم بقنبلة ، أعلم ما تفكرون به الآن . كلا ، لا داعي لتلك الشهقات التي أكاد أسمعها و تكاد تخترق طبلة أذني . لا داعي لغلق الأفواه براحات أيديكم .
نعم .. لقد فعلتها ..
لكم أن تتخيلوا إذن نظرة الاستنكار و الاستهجان و الاحتقار الرهيبة التي رمتني بها . إنها نظرة من طراز ما هذا ال ( قرف ) التي ترمي بها الفتيات كل صرصور ترينه .
لا داعي للقول بأنني في الثانية التالية لتلك الفعلة الشنعاء ؛ أدركت فداحتها . علَّقتُ يدي في الهواء بتردد ، لا أعلم إن كان يجب عليَّ أن أبقيها ممدودة أم عليَّ أن أسحبها . أنا أريد سحبها لكني خائف من أن تمد يدها لتصافحني في الوقت الذي أسحبها فيه فأزيد بذلك الطين بِلَّةً كما يقولون .
أنقذتني هي من ارتباكي هذا بقولها الناري :
- عاوز إيه ؟؟؟؟؟؟
سارعت بسحب يدي الممدودة أمامها بعد أن أيقنت أنها لم تكن لتصافحني – فهذا هو الأكيد بالطبع – و أخرجت منديلاً من جيبي لأجفف به عرقا و همياً على جبيني كما يفعل غالبية المتوترين في أفلام السينما .
قلت لها :
- أنا كنت عاوز أكلم حضرتك بخصوص محاضرة النهارده يا دكتورة
بنبرة نارية أكثر و أكثر :
- مالها محاضرة النهارده ؟؟؟
ازدردت لعابي بصعوبة و أنا أقول :
- أنا يا دكتورة وصلت بعد ما حضرتك قفلتي باب المحاضرة بخمس دقايق . أنا عارف إن أنا متأخر بس و الله يا دكتورة ظروف المواصلات كانت وحشة جداً النهارده بالذات ، خصوصا إنه أول الأسبوع يعني .
بصوت بدأ يعلو و سحنة بدأت بالانقلاب إلى سحنة وحش كاسر قالت :
- إنت لو كنت عاوز تحضر المحاضرة كنت عملت المستحيل عشان تحضرها . إنما إنتم كل واحد فيكم ينام في بيته و يصحى بمزاجه و بعدين يفتكر إن وراه محاضرة فيقول أما أروح أحضرلي بتاع عشر دقايق و أنزل .
كان قولها يحمل إتهاماً صريحاً لي ، و متى ؟؟ اليوم بالذات ؟؟؟ كان يمكن أن أتقبل كلماتها في أي يوم آخر إلا اليوم . لأنني اليوم بالذات قد فعلت المستحيل بالفعل لأصل في الميعاد المحدد .
بدأت نبرات صوتي تعلو و تثور فأنا لست ممن يحسنون السيطرة على أعصابهم عند الغضب ، صدق صلى الله عليه وسلم عندما قال : " ليس الشديد بالصرعة ، لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب " و هو أمر بالغ الصعوبة بكل تأكيد .
قلت لها :
- أنا فعلاً النهارده و النهارده بالذات عملت المستحيل و برضه ما دخلتش المحاضرة و لا أخدت الشيت .
- و أنا أعمل لك إيه يعني ؟؟
- ممكن حضرتك تديني الشيت . ده من حقي لأني فعلا جيت و كنت عاوز أحضر و عدم حضوري للمحاضرة مكنش بسبب مباشر مني أنا .
- يا سلااااااااااااااااام !!!! يعني إنت عاوزني أساويك بطالب محترم نفسه و محترم المحاضرة و محترم اللي بيديله و ملتزم ، بطالب مش هامه حاجة خالص ؟؟؟
- مين قال لحضرتك إن أنا مش هاممني حاجة خالص ؟؟ أنا لو مش هاممني حاجة مكنتش جيت لحضرتك هنا عشان أطلب شيت ، ده أولاً .
ثانياً بقى ، أنا مش من مكان قريب عشان أقدر بمزاجي أكون موجود هنا قبل المحاضرة بساعتين زي ما حضرتك كنتي بتقولي قبل كده مرة . الطلبة اللي بيعملوا كده غالبيتهم من الزقازيق أو من مكان قريب منها مش من بلد بعيدة زي بلدي محتاج على الأقل ساعة و نص عشان آجي منها للزقازيق .
ثالثاً و ده الأهم ، الناس البعيدة اللي زي حالاتنا المفروض ما يتحاسبوش عالعشر دقايق و الربع ساعة تأخير ، اللي يتحاسب عليها الناس اللي في إمكانهم ييجوا قبل كده و ما بيجوش .
كانت مرافعتي متقنة ، سددت فيها عليها كل الثغرات ، ربما كان يجب عليَّ أن ألتحق بكلية الحقوق بدلاً من كليتنا هذه . الحمد لله ، قدر الله و ما شاء فعل . و الذي يؤكد قولي هو أنها قد هبت من مقعدها فجأة بعدما تصاعدت بيننا نبرة الحديث إلى هذا الحد و هوت بقبضتها على المكتب بكل قوة صائحة :
- إنت كمان بتقل أدبك و بتقاطعني و بتتهمني بالظلم !!!!!
- أنا مقاطعتش حضرتك يا دكتورة و لا قليت أدبي و لا إتهمت حضرتك بأي حاجة ، أنا بس بوضح وجهة نظري . و الاختلاف في وجهات النظر و التعبير عنها بحرية أمر مسموح و حق يكفله الدستور لكل مواطن .
- و كمان بتكدبني .. إطلع برا حالاً و إلا هتشيل المادة السنة دي
رددت بكل هدوء يتنافى مع انفعالي الذي كنت عليه منذ قليل :
- حاضر يا دكتورة أنا طالع برا حالاً أهه ، ما هو أساساً هي دي بلدنا و هو ده اللي إحنا متعودين عليه . الواحد اللي بيقول الحق قدام الكبار بياخد على دماغه .
صرخت فيَّ بصوت مرعب سمعه كل من بالقسم تقريباً فخرجوا ليروا من ضحيتها الجديدة :
- إمشي من قدامي يا حيوان لا أوريك اللي ما يتورا .. خرجت من مكتبها و مشيت في الممر حتى وصلت إلى بوابة السجن و خرجت خارج هذا القسم الرهيب . كنت قد وصلت إلى حالة أجزم بأن ضغطي قد إرتفع فيها ليتجاوز المائتين .
هبطت الدرجات بسرعة و ذهبت إلى مكاننا الأثير بجانب الملعب لأبحث عن أصحابي الذين افتقدتهم كثيراً هذا اليوم . قابلت أحدهم فأخبرني بأن رجلاً – ابن حلال – قد سأل عني اليوم في الكلية . كان يسأل كل من يقابله عني و يذكر أني في الفرقة الثالثة فأرشده البعض إليهم فأعطاهم محفظتي و أخبرهم بأنه قد عثر عليها ملقاة في الشارع ، أعرفتم الآن أين فقدتها ؟؟ ليس في الموقف مثلما تصور الجميع ..
أخبرهم أيضا أنه قد تعرف على صاحبها من البطاقة و الكارنيه فأخذوها منه شاكرين .. حمداً لله ، لقد حدث لي أخيراً شيءٌ جيد في هذا اليوم الطويل . فتحت المحفظة لأجد فيها البطاقة و الكارنيه و نصف جنيه فقط لا غير .
لكم أن تتخيلوا الباقي ، أمضيت بقية يومي مع أصدقائي على نفس المنوال الذي نقضيه به كل يوم . بالطبع لم أَسْلَم من عبارات الاستهزاء من أمثال : " شفت يا سيدي آخرة الإجتهاد و المجتهدين ؟؟ يا ابني إحنا مش منهم و على قد لحافك مد رجليك " و على غرار : " عشان ما تبقاش تفكر في الإنحراف تاني يا بطل " ..
اقترضت بعض المال منهم لأرجع إلى البيت . عندما عدت بمنظري الرهيب نظرت إليَّ أمي و لم تبالِ ، لكني أعلم أنها قالت في نفسها : " كنت عارفة إنك ناوي على بلوة النهاردة من ساعة ما شفتك الصبح "
كنت منهكاً خائر القوى ، اتجهت صوب الحمام و من بعدها ارتميت على السرير و قبل أن أنام ، و في مرحلة يقظة ما قبل النوم التي أخبرتكم عنها ، قررت ثانية أن : [Tomorrow is a new day] سيكون يوماً جديداً بالفعل ، لكنه قطعا لن يكون أبداً كاليوم .
آسَفُ إن كنت قد أطلت عليكم ..
تصبحون على ألفِ ألفِ خير ..
أخوكم المطحون ... طالب بكلية الطب البشري / السنة الثالثة / 2006 – 2007
[color:4139=#000000:4139]تمت بحمد الله تعالى