يقال: بل إن باب الاجتهاد لم يغلق ولا يملك أن يغلقه أحد، ولكن تقاصرت الهمم وتراجعت العلوم الفقهية، وفيهم من قال: إن الاجتهاد لم يغلق بابه والعلماء لم تتقاصر همههم ولا تناقصت علومهم. ولكن أدركتهم الرهبة وخانتهم الجرأة فلم يقتحموا إليه كما فعل من قبلهم.
فما هو الحق في هذه المسألة؟ وما هو واجب المسلمين اليوم؟
لعل الجواب الذي يتفق مع المنطق وتسكن إليه النفس، ما قاله الشيخ محمد نور الحسن رحمه الله في بحث ألقاه في المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة. قال:
((الذي يظهر لي أن النزاع في أن باب الاجتهاد أغلق أم لم يغلق، لا طائل منه، إذ لم يتوارد فيه السلب والإيجاب على مورد واحد. ولذا فإن أصحاب كل من الرأيين على حق، بالنظر إلى المعنى الذي يتصورونه ويرمون إليه.
فالاجتهاد قد أغلق بابه فعلاً مع بداية القرن الرابع، إذا كان مقصوده الاجتهاد المطلق الذي يبدأ أصحابه بوضع الأسس الاجتهادية، واعتماد أصول الاستدلال،
والاجتهاد لم يغلق بابه، بل هو مستمر إلى يومنا هذا، إن أريد به استعمال هذه الأسس والقواعد الثابتة، في استخراج الأحكام من مصادرها الشرعية، وفي مواصلة الاجتهاد في كل ما يجد من القضايا والأحكام)).
أعتقد أن بوسعي أن أزيد هذا الكلام الدقيق إيضاحاً، من خلال بيان ما يلي:
إن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ليس عملاً إبداعياً طليقاً، كالذي نعرفه في نطاق البحوث المتعلقة بكثير من المعارف والأفكار الإنسانية الأخرى.. وإنما هو اتجاه مرسوم، والتزام بمنهج محدد. إذ هو ليس أكثر من البحث عن حكم الله الذي خاطب وألزم به عباده في كتابه أو أوحي به وحياً غير متلو إلى نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كل ذلك استناداً إلى سبل ووسائل علمية محددة، لا مجال لأحد من الناس، مهما كان شأنه أن يتجاوزها أو يتحرر منها.. إذن فالساحة الاجتهادية أمام الباحثين محددة ضمن قواعد وأصول ثابتة معينة في تفسير النصوص والقياس عليها.
ومن هنا نعلم أن شيئاً آخر غير العبقرية العلمية، لعب دوراً كبيراً في رفع أولئك الأئمة الذين كانوا في الصدر الأول من تاريخ التشريع الإسلامي، إلى مركز الصدارة في الميدان الاجتهادي، ألا وهو فراغ المجال الاجتهادي أمامهم، بحيث إن أي إنجاز علمي يتجلّى فيه، لابدَّ أن يأخذ الشكل الإبداعي، وأن يسمى بالاجتهاد المطلق.فهذا هو الذي أظهر أسبقية أولئك في مظهر المبدعين للاجتهاد ومناهجه، وأظهر هؤلاء المتأخرين، شاؤوا أم أبوا، في مظهر المقلدين والتابعين، حتى وإن كانوا في واقع الأمر مستقلين بالنظر والبحث.وقد نقل الزركشي عن القفال الشاشي أنه كان إذا استُفْتِي أجاب السائل، ثم قال له: لست مقلّداً للشافعي، ولكن وافق رأيي رأيه!.. وكذلك ابن دقيق العيد والعز بن عبد السلام (من أعيان القرن السابع) فقد كان كل منهما يجتهد فيما يُستفْتَى فيه، إلا أنه يجد نفسه مع ذلك غير خارج عن مذهب إمامه..
إذن فإن ما كان يبدو في النشاطات العلمية لعلماء القرن الرابع فما بعد، من مظهر التقيد بمنهج من قد سبقهم، لم يكن عن تقليد وابتعاد منهم عن الاجتهاد، بل لم يكن لهم منه بدٌّ ولا مناص. لهذا السبب الذي ربما أطلت في بيانه.
أخيراً ما الذي نأخذه من هذا الكلام كله لعصرنا الذي نحن فيه؟
أولاً: باب الاجتهاد مفتوح ولا يمكن أن يغلقه أحد.. ولكن له شروطه وضوابطه، ولا يجوز أن يتلاعب بها أحد.
ثانياً: لا معنى للتطلع إلى ما يسمى (الاجتهاد المطلق) إذ لا معنى ولا مبرر لاطّراح قواعد الاستنباط وتفسير النصوص، لمجرد أنها قديمة الاكتشاف، وأن غيرنا من العلماء قد سبق إلى معرفتها والعمل بها فاكتسب بذلك اسم (المجتهد المطلق). الشأن في ذلك كشأن الذين اكتشفوا من قبلنا قواعد اللغة العربية تماماً.
ثالثاً: إن دراسة المشكلات والأوضاع الحديثة يجب دراستها دراسة اجتهادية بجدّ وإخلاص، وهي تدخل بدون ريب في صميم واجباتنا وحياتنا الإسلامية، ومن الخير الاستنجاد بـ(الاجتهاد الجماعي) كلما اشتدت المشكلة وتغلبت عوامل الالتباس والتشابه.
رابعاً: إن الكلمة الجامعة التي ينبغي أن تلتقي عليها المذاهب الإسلامية في هذا العصر بصدد مسألة الاجتهاد، هي: أن المسالك الاجتهادية إنما هي السبل المؤدية إلى معرفة الغوامض من أحكام الله وأوامره للانضباط بها والتحرك داخل ساحتها، وليست، كما يجب أن يراها بعضهم اليوم، سبلاً للتسلل والفرار من خلالها، من ضوابط الشرع وقيوده، والابتعاد عن فلك الدين والتحرر من جاذبيته.
والميزان الذي به يمكن أن ندرك هذه الحقيقة ونتذوقها، هو القاعدة التي لا شذوذ فيها ولا ريب والقائلة:
إن الإسلام الحضاري الذي يثير دهشة وإعجاب كثير من الناس، لا يمكن أن ينهض إلا على أساس راسخ من الإسلام التديّني!.. وإن كلاً من الماضي البعيد، والحاضر الذي نتقلب فيه، لأكبر شاهد على ذلك.